المحبة في الله
وهي من أوثق عُرَى الإيمان , وبها يتميز الخلان , وعليها مدار الصِّدق والإيمان , فكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعًا لمحبة الله وتعظيمه , كمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه , فإنها من تمام محبةِ مُرسله وتعظيمه , فإنَّ أمته يحبونه لحب الله له , ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له , فهي محبة لله من موجبات محبة الله سبحانه , وكذلك محبة الصحابة رضي الله عنهم وإجلالهم , ومحبة أهل العلم والإيمان , كل ذلك تابعٌ لمحبة الله ورسوله لهم , وكذلك محبة الوالدين , والزوجة والأبناء والأهل , والأصحاب والخلان , ولذلك يجب التمييز في هذه المحبة بين ما هو لله وفي الله التي هي من كمال التوحيد , وتمام الإخلاص , وبين محبة الأنداد التي هي شرك بالله , ولذلك إذا لاح حبٌ مع الله عز وجل وعُرِضَ على القلب ؛ فيجب أن يصرف عنه فورا ويسد أمامه كل منفد حتى لا يصل إليه منه شيء إلا برضًا من الله.
تأمل محبة الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم , وكيف اجتمعت قلوبهم بعد شتاتٍ وفرقة ؛ على محبة الله وطاعته .
قَالَ تَعَالَى : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } [ سورة الأنفال : 63 ] .
فإذا ما قرأ العبد مثل هذه الآية علم أن ما كان من هذا التأليف بين قلوب الصحابة رضوان الله عليهم ما كان له أن يكون إلا بالحب ، وهو النعمة التي شغفت بها قلوبهم ، واستضاءت بها صدورهم ، وارتحلت إليها إراداتهم ، فالتقت جميعها على أمر قد قُدِّر لها ؛ وهو اتحاد القلوب على محبة الله وطاعته , ومن ثم تبعهم من السَّلف على هذه الحالة بإحسان , وهم يقتفون أثرهم وينزلون منازلهم , بما يجيش في صدورهم من حب , وبما يحدوهم من حنين للقاء في جنة الخلد .فأرواح أهل الإيمان تهيم بحثًا عن أقرانها , وكذلك الأرواح الخبيثة تبحث عن نظرائها .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ , فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ , وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ .([1])
فالطباع جمّاعة , والنفوس جوّالة ؛ تبحث عن أقرانها ونظرائها .
عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحًمَنِ : أَنَّ امْرَأَةً من أَهْلِ مَكَّةَ كَانَتْ تُضْحِك النِّسَاءَ, وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ المؤمِنين , وَكَانَتْ أُخْرَى بِالْمَدِينَةِ, وَإِنَّ الْمَكِّيَّةَ قَدِمَتْ فَلَقِيَتْ الْمَدَنِيَّةَ؛ فَوَافَقَتْهَا فَدَخَلَتَا عَلَى عَائِشَةَ جَمِيعَا فَلَمّا رَأَتْ من اتِّفَاقِهِمَا ؛ قَالَتْ لِلْمَكِّيَّةِ: أَكُنْتِ تَعْرِفِينَ هَذِهِ, قَالَتْ: لا ؛ وَلَكِنَّا التَقَيْنَا فَتَعَارَفْنَا . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : صَدَقْتِ, سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ , فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ , وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ .([2])
ولذلك نرى هذه المحبة قد جعلها الله سبحانه وتعالى من جملة نعمه على أوليائه وصالح عباده , قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ من النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ سورة آل عمران : 103 ]
ولذلك نرى أن المتعرِّضَ لهذه النعمة ؛ نعمة المحبة قد سار على درب من سبقه من الصحابة النجباء , والسَّلف الأخيار ؛ الَّذين عاشوا المحبة واقعًا ؛ فخفوا عن الدنيا وارتحلوا للآخرة , أمَّا المثقلون بأوزارهم , الدنسة قلوبهم فقد حرموا هذه النعمة وفقدوا هذه اللَّذَّة , فإن أحبوا فلمتعةٍ حاضرة , وإن أحسنوا فلشهوة عاجلة , ميزانهم ! الدنيا حاضرة والآخرة نسيئة !! فسبيل الإيمان والطريق إلى محبة الله ؛ هو الحب في الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا , وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا , أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ .([3])
وكلما انقطعت هذه العُرى , ونزع الحب في الله , وغلبت المصلحة ؛ وأصبح الحب على ما يعرض من متعة عاجلة , وقعت الهلكة بين العباد ؛ من حسد وبغضاء , ومكر وخداع , فيصبح الدِّين في قلب العبد كالثوب الخلق .
عَنْ الزُّبَيْرِ بْن الْعَوَّامِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ , الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ , هِيَ الْحَالِقَةُ , لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ , وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ , وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا , وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا , أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ , أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ .([4])
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ , وَأَعْطَى لِلَّهِ , وَمَنَعَ لِلَّهِ , فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ .([5])
فأمثل الحب وأحسنه ما كان لله وفي الله , يُلقي العبد بقلبه على باب الرضا فما كان لله فتح البابَ على مِصْرَاعَيْهِ , وملأ جوانب قلبه بمحبة من تَوَّجَهُ الحبُّ بطاعةِ ربه , فإذا همساته و هجساته وبسماته تتجه لمن أحب , وينظر بعينيه في كل جهة ، ويُصعِّد بصره في كل أفق ، ويدور بفكره في كُلِّ جزء ، فلا يدرك بكل ذلك إلا ما يدرك الصَّبُّ الموله من وجه من يحب بعد طُول غياب ! فَرِحٌ عند اللقاء , قَلِقٌ عند الغياب , لأن من أحبَّ قابض على يده ؛ يعجل به إلى المسارعة لفعل الخيرات , وينادي عليه بأعلى صوته إياك والالتفات , فيده أبدا في يده ولو ابتعد عنه , وصوته أبدا في أذنه وإن نأى عنه , فقلوب المحبين تعانقت وإن نأت بهم الديار .
قَالَ ابن المبارك : أُحِبُّ الصّالحين ولست منهم , وأبغض الطالحين ؛ وأنا شَرٌّ منهم , ثم أنشأ يقول([6]):
الصَّمْتُ أَزْيَنُ بِالْفَتَى من مَنْطِـقٍ فِي غَيْرِ حِينِه
والصِّدْقُ أَجْمَلُ بِالْفَتَى فِي القَوْلِ عِنْدِي من يَمِينِه
وَعِلْمُ الفَتَى بِوَقَــارِهِ سِمَةٌ تَلُـوحُ عَلَى جَبِينِه
فَمَن الَّذِي يَخْفَى عَلَيْكَ إِذَا نَظَـرْتَ إِلَى قَرِينِه
رُبَّ امْرِئٍ مُتَيـقِّنٍ غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى يَقِينِه
فَأَزَالَهُ عَنْ رَأْيهِ فَابْتَـاعَ دُنْيـاهُ بِدِينِه
قَالَ سُليمان التَيْمِي : إنما الأخ الذي يَعِظُكَ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَعِظُكَ بِكَلامِهِ , لَقَدْ كُنْتُ أَنْظُر إلى الأخِ من إِخْوَانِي بِالعِراقِ فَأَعْمَلُ عَلَى رُؤْيَتِهِ شَهْرًا .([7])
وقال طاووس : سمعت ابن عباس يقول : إِنَّ الرَّحِمَ يُقْطَعَ , وَإِنَّ النِّعَمَ تُكْفَر , ولم نَرَ مِثْلَ تَقَارُبِ القُلُوبِ ثم قرأ : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ سورة الأنفال : 63 ] .وذلك موجود في الشعر :
إِذَا أَتَتْ ذَوو القُرْبَى عَلَيْكَ لِرَحْمَةٍ فَغَشَّكَ واسْتَغْنَى فَلَيْسَ بِذِي رَحِمٍ
وَلَكِنَّ ذَا القُرْبَى الَّذِي إِنْ دَعَوْتَهُ أَجَابَ وَمَنْ يَرْمِي العَدُوَ الَّذِي تَرْمِي
ومن ذلك أيضًا قول القائل :
وَلَقَدْ صَحِبْتُ النَّاس ثُمَّ سَبَرْتُهُم وَبَلَوْتُ مَا وَصَلُوا من الأَسْبَابِ
فَإِذَا القَرَابَةُ لا تُقَرِّبُ قَاطِعًا وَإِذَا الْمَوَدَّةُ أَقْرَبُ الأَنْسَابِ ([8])
كتب أبو رفاعة أحمد بن محمد بن النضر , إلى جعفر بن يحيى البرمكي , أما بعد : فَإِنَّ الكَرَمَ أَعْطَفُ من الرَّحِمِ , وهو أقربُ عِنْدَ الكَرِيمِ وَسِيلَةً من القَرَابَةِ القَرِيبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الكَرِيمَ كَيْفَ يُجْدِي عَلَيكَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا , واللَّئِيمَ مَا يَنْفَعُكَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا , فَالكَرَمُ سَبَبٌ من الكرام موصول يرتعون إليه ويتعاطفون عليه , وهو أقوى الأسباب وأقرب الأنساب , وإنما عظمت القرابة لعطفها , فأقرب النَّاس إليك أعطفهم عليك .([9])
لقد ضرب الصَّحابة أعظم المثل في المحبة في الصدر الأول ؛ حتى نرى الأنصار ما تركوا موطنًا يحببهم إلى إخوانهم من المهاجرين إلا فعلوه , وقد أثنى ربهم عليهم وعظَّم قدرهم , وأنزل فيهم قرآنًا يُتلى .
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ من قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) } [ سورة الحشر : 9 ]
فلم يستأثروا بخيرٍ دُون إخوانهم المهاجرين , فهؤلاء الأنصار عرضوا مقاسمة المهاجرين في أرضٍ أعطاهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَتْ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ , قَالَ : لَا , فَقَالُوا : تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ , وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ , قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .([10])
وهذا أَنْصَارِيٌّ يَعْرِضُ على مُهَاجِرِي المشاركة في المالِ , والبيتِ , والتنازل عن إحدى زوجتيه .
فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ , وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ , وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ , فَقَالَ سَعْدٌ : قَدْ عَلِمَتْ الْأَنْصَارُ أَنِّي من أَكْثَرِهَا مَالًا , سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ , وَلِي امْرَأَتَانِ , فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا , فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ , فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا من سَمْنٍ وَأَقْطٍ , فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ من صُفْرَةٍ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْيَمْ ؟! قَالَ : تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً من الْأَنْصَارِ , فَقَالَ : مَا سُقْتَ إِلَيْهَا , قَالَ : وَزْنَ نَوَاةٍ من ذَهَبٍ : أَوْ نَوَاةً من ذَهَبٍ , فَقَالَ : أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ .([11])
فانظر كيف كان استقبال الأنصار لهؤلاء المهاجرين الَّذين تركوا الأهل والمال ؛ فشاركوهم المدينة , وكيف وصل الأمر بأحدهم إلى أن يعرض ماله , ونساءه وبيته , لأخيه من المهاجرين .
ونحن في زمان أضحى الحب فيه سلعةً تُباعُ وتشترى ، وليت الثمن الذي يدفعه الشّاري للبائع يزيد من قيمتها إذا قلّت في السوق كغيرها من السِّلع ، بل لقد أقدم على سَوْمِها الفقيرُ المُعْدَمُ ، أما البائع فقد سَئمها لقلة من يسومها أو يطلبها ، وأما الشاري فقد اغتنى عنها بأحسن منها عنده ، لقد صار البغض هو الأحب والأقرب إليه ! فالأحسنُ والأحبُّ إليه ما يُجْرِي إليـه نفعًا ! أو يُصلِحُ له شأنًا ! في غير تحرُّرٍ من شبهةٍ ولا تعفُّفٍ عن حَرَامٍ ولا اعتبار لقيم أو أخلاق .
قَالَ أبو الربيع الرشديني : رَأَيْتُ ابْنَ وَهْبٍ دَخَلَ مَسْجِدَ الفُسْطَاطَ فِي يَومٍ مَطِيرٍ فَجَعَلَ يَطْلُبُ إِنْسَانًا يَجْلِسْ مَعَهُ , فَجَاءَ إِلَى مُؤَخِّرِ المسجدِ فَرَأى سَعِيدًا الأَخْرَم , فَقَامَ إِلَيه فَاعْتَنَقَا جَمِيعًا يَبْكِيان , فَسَمِعْتُ ابن وهب يقول : يا أبا عُثْمَان ذَهَبَ مَنْ كَانَ إِذَا صَدَأت قُلُوبُنَا جَلَاهَا([12])
قَالَ الخطّابي : ([13])
أنه كان أعرابي بالكوفة , وكان له صديق , وكان يظهر له مودة ونصيحة , فاتخذه الأعرابي من عُدَدِه للشدائد إذ حزب بالأعرابي أمر , فألمت به نازلة فأتاه , فوجده بعيدًا مما كان يظهر له , فأنشأ يقول :
إِذَا كَانَ وُدُّ المَـرْءِ لَيْسَ بِزَائِدٍ عَلَى مَرْحَبًا أَوْ كَيْفَ أَنْتَ وَحَالُكَا!
ولم يَـكُ إِلَّا كَاشِرًَا أَوْ مُحْدِثًا فَأُفٍ لِوُدٍ لَيْـسَ إِلا كَذَلِـكَا
لِسَانُكَ مَعْسُولٌ ونَفْسُكَ بَشَّةٌ وَعِنْدَ الثُّرَيَّا من صَدِيقِك مَالُكَا
فَـأَنْتَ إِذَا هَمَّتْ يَمِينُكَ مَرَّةً لِتَفْعَلَ خَيْرًا قَاتَلَتْهـَا شِمَالُكَا
قَالَ العِجْلي ([14]): وكان عبد الله بن شبرمة عفيفًا صارمًا عاقلا فقيهًا , حسنَ الخلقِ جوادًا , وكان إذا اختلف إليه الرجل ثلاثًا , دعاه فقال له : أراك قد لزمتنا منذ ثلاثة أيام , عليك خراج فنكلم لك فيه ؟ أو دَيْن أو حاجة فنسعى لك فيها ؟ فلا يكلمه في شيء إلا قضاه , ثم يقول : إنهم لا يأتوننا إلا لننفعهم في أمر دنياهم , لا يأتوننا لنشفع لهم في آخرتهم {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [سورة عبس : 37].
لقد كانت كلمةُ الْحُبِّ يهتز لها الوجدان , وتتحرك لها الأركان , وتدمع لها العينان , أما الآن ! فأصبحت كلمة سهلة على كُلِّ لسان ؛ بل هي بضاعة تنفق من كل مفلسٍ خسران , حتى أصبح وقعها لا يحرك ساكنًا , ولا يطرب الآذان .
فانظر لهذا الرجل الذي يخرج قاصدًا أخًا له في قرية أخرى , لم يخرج إلا لله , فأرسل الله إليه ملكًا يبشره بمحبة الله له على محبته لأخيه في الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ؛ فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا , فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ , قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ من نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لَا , غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ .([15])
وهذا أبو إدريس الخولاني يتعلق قلبه بمحبة معاذ بن جبل من أول نظرة ؛ فلا يصبر عن إخباره بذلك , فلما عجز عن لقائه في نفس اليوم الذي رآه فيه ؛ أتاه من الغد مبكرًا حتى يراه .
عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا , وَإِذَا النَّاس مَعَهُ , إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ , وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ , فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ : هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ , فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ , وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي , قَالَ : فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ ثُمَّ جِئْتُهُ من قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ , ثُمَّ قُلْتُ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ , فَقَالَ : أَاللَّهِ !! فَقُلْتُ : أَاللَّهِ , فَقَالَ : أَاللَّهِ !! فَقُلْتُ : أَاللَّهِ , فَقَالَ : أَاللَّهِ !!فَقُلْتُ : أَاللَّهِ , قَالَ : فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي , فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ , وَقَالَ : أَبْشِرْ , فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ , وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ , وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ , وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ .([16])
قالت جميلة مولاة أنس : كان ثابت إذا جاء قَالَ أنس : يا جميلة ! ناوليني طِيبًا أَمَسُّ بِهِ يَدَيَّ فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ ثَابِت لا يَرْضَى حَتَّى يُقَبِّلَ يَدَيَّ , ويقول : قَدْ مَسَّتْ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .([17])
جاء سُهلُ بن عبد الله التستري الى أبي داود السجستاني -رحمهما الله - فقيل : يا أبا داود هذا سهل بن عبد الله جَاءَكَ زَائِرًا , فَرَحَّبَ بِهِ وِأَجْلَسَهُ , فقال له سهل : يا أبا داود لي إليك حاجة ؟ قَالَ : وما هي ؟ قَالَ : حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان , قَالَ : نعم , قَالَ : أَخْرِجْ إِلَيَّ لِسَانَكَ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُقَبِّلَهُ , فَأَخْرَجَ إِلَيه لِسَانَهُ فَقَبَّلَهُ .([18])
وهذا خالد بن معدان , ما كان يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شَوْقَهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار , ثم يُسمِّيهم ويقول : هم أَصْلي وفَصْلي , وإليهم يحنُّ قَلْبِي , طَالَ شَوْقِي إِلَيْهِم ؛ فَعَجِّلْ رَبِّ قَبْضِي إِلَيكَ , حَتَّى يَغْلِبَهُ النُّومُ وَهُو فِي بَعْضِ ذَلِكَ .([19])
وهذا فضيل بن غزوان الضبي يقول : لَقِيَنِي أبو إسحاق السَّبيعي فقال لي : إِنِّي وَاللهِ لَأُحِبُّكَ , وَلَولَا الْحَيَاءُ لَقَبَّلْتُك .([20])
فالحب علاقةٌ بين قلبين إذا أحس بها أحدهما لابد أن يُحس بها الآخر , فإذا كانت لله فإنها تزداد ولا تقل , وتقوى ولا توهن .
فعن ابن مسعود قَالَ : لا تَسْأل الرَّجل عما في قلبه لك , ولكن انظر ما في قلبك له ؛ فإن لك في قلبه مثل ذلك .([21])
وقال رجلٌ ليحيى بن كثير : إِنِّي أُحْبُّكَ , قَالَ : قَدْ عَلِمْتُ ذَلِكَ من نَفْسِي .([22])
وعن أبي الدرداء قَالَ : إِنِّي لَأَدْعُو لِثَلَاثِينَ من إِخُوَانِي وَأَنَا سَاجِدٌ ؛ أُسْمِّيهم بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبائِهم . وقال : لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا أَحْبَبْتُم خِيَارَكُم ؛ وَمَا قِيلَ فِيكُمْ بِالْحًقِّ فَعَرَفْتُمُوه ؛ فَإِنَّ عَارِفَ الْحَقِّ كَعَامِلِهِ .([23])
وقال سفيان الثوري : وَجَدْتُّ قَلْبِي يَصْلُحُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعَ قَوْمٍ غُرَبَاءٍ أَصْحَابِ بُيُوتٍ وَعَبَاءٍ .([24])
وقد أحسن من قَالَ :
وَمَا بَقِيتْ من اللَّذَاتِ إِلّا مُحَادَثَةُ الرِّجَالِ ذَوي العُقُولِ
وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهُمُ قَلِيلًا فَقَدْ صَارُوا أَعَزَّ مِنْ القَلِيلِ
وكان الشّافِعي رحمه الله يقول : ليس سُرورٌ يَعْدِلُ صُحْبَةَ الإخوان , ولا غَمُّ يَعْدِلُ فِرَاقَهَم .([25])
قَالَ بلال بن سعد : أخٌ لك كُلَّما لقيك ذَكَّرَكَ بِحَظِّكَ من الله ؛ خير لك من أخٍ كُلَّما لقيك وضع في يدك دينارا .([26])
قَالَ عباد بن كليب : اجتمعت أنا ومحمد بن النضر , وعبدالله بن المبارك , وفضيل بن عياض , فصنعنا طعامًا , فلم يُخَالِفنا محمد بن النضر في شيء , فقال عبدالله : إنك لم تخالفنا ؟ فقال محمد : وإذا صاحبت فاصحب صاحبًا ذا حياءٍ وعفافٍ وكرمٍ , قوله لك : لا ؛ إن قلت : لا , وإذا قلت : نعم , قَالَ : نعم([27])
قَالَ هشام بن عبد الملك : ما بَقِيَ عَلَيَّ بشيءٍ من لَذَّاتِ الدنيا إلا وقد نِلْتُهُ , إلا شيئًا واحدًا ؛ أخٌ أرفعُ مؤنةَ التَّحفُّظِ منه .([28])
فالأخ يَعْذُر ولا يُحاسِبُ ؛ لأن الحبَّ يَمْحُو الإساءة , ويُزِيلُ الجفوة , ويُنسي عند أولِ نظرة ما كان من سابقِ هجر .
فعن وكيع بن الجراح قَالَ : اعتلَّ سفيان الثوري فتأخرت عن عيادته ؛ ثم عُدته فاعتذرت إليه ، فقال لي : يا أخي لا تعتذر ! فَقَلَّ من اعتذر إلا كَذَب ، واعلم أن الصَّديق لا يُحَاسِبُ على شيءٍ ، والعدو لا يُحْسَبُ له شيءٌ .([29])
قيل لميمون بن مهران : إن فلانًا يَسْتَبْطِئُ نفسه في زيارتك . قَالَ : إذا ثبتت المودة فلا بأس ؛ وإن طال الْمُكْثُ .([30])
قَالَ أبو سفيان بن حرب : ما خاصمت أحدًا إلا وتركت للصُّلح موضعًا .([31])
عن محمد بن الحنفية قَالَ : ليس بحكيمٍ من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًا ؛ حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجًا .([32])
ولكن قد نرى أن هذا النَّوع يتعذر وجوده , ويصعب الوقوف عليه لفساد الزَّمان , وقلة الإيمان , فإن وُجِدَ هذا الصِّنْفُ فعضَّ على صُحبته بالضُّرُوسِ والأَنْيَاب , لأن هذا رفيقك إن استقمتما إلى جنةِ الرَّحمن .
فالحب في الله يقتضي السُّكوت عن المكاره , والنُّطق بالمحاب , وكثرة الثناء عليه في غيبته , وتدعوه بأحب الأسماء إليه , وتثني بما تعرف من محاسنه عند من يحب هو الثناء عنده , وعلى أولاده وأهله وصنعته وعقله وخلقته , وجميع ما يفرح به من غير كذب أو إفراط ؛ فإنَّ إخفاء ذلك جحود المحبة وبوادر الحسد .
عن أبي خالد الأحمر قَالَ : مررت أنا وسفيان الثوري بمنزل داود الطّائي فقال لي : سفيان أدخل بنا نُسَلِّمُ عليه ، فدخلنا عليه فما احْتَفَلَ لسفيان ؛ ولا انبسط إليه ، فلمّا خرجنا ، قلت : يا أبا عبد الله غَاظَنِي ما صنع بك ! قَالَ : وإيش صنع بي ؟! قلت : لم يَحْفَلْ ولم ينبسط إليك ! قَالَ : إن أبا سليمان لا يُتَّهم في مودته ، أما رأيت عينيه ! هذا في شئٍ غير الذي نحن فيه .([33])
وقال عمر بن الخطاب : ثلاثٌ يصفين عليك من ودِّ أخيك : أن تُسلِّم عليه إذا لقيته , وتوسع له في المجلس , وتدعوه بأحسن أسمائه إليه .([34])
قَالَ عبد الله المبارك : قد جمعت علم العلماء ؛ فليس فيما جمعت أحب الي من علم الفضيل بن عياض .
قَالَ أيضًا : وما أعياني شيءٌ كما أعياني أني لا أجد أخًا في الله .([35])
ولذلك من أحب في الله لا يغفل عن أخيه حتى ولو غفل عن نفسه , وتفقد أحواله حتى بعد موته , وكان من السَّلف من يتفقد أحوال أخيه بعد موته أربعين سنة , يقوم بحاجاته ويتفقد عياله , فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه .
([1]) رواه مسلم (2638)
([2]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/497)
([3]) رواه مسلم (54)
([4]) حسن : رواه الترمذي (2510) أحمد (1/165-167)
([5]) صحيح : رواه أبو داود (4061) أحمد (3/440) انظر : السلسلة الصحيحة (380)
([6]) تاريخ الإسلام للذهبي (5/299)
([7]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/505)
([8]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/495)
([9]) البيهقي"شعب الإيمان" (6/495)
([10]) رواه البخاري (2325)
([11]) رواه البخاري (3781)
([12]) أبو نعيم "الحلية" (8/324)
([13])الخطابي "العزلة" (74)
([14]) الثقات (259)
([15]) رواه مسلم (2567)
([16]) صحيح : رواه مالك "الموطأ -كتاب الجامع" (16)
([17]) حلية الأولياء (2/327)
([18]) سير أعلام النبلاء (13/213)
([19]) سير أعلام النبلاء (4/539)
([20]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/495)
([21]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/498)
([22]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/498)
([23]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/502)
([24]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/503)
([25]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/504)
([26]) البيهقي"شعب الإيمان"(6/504)
([27]) أبو نعيم "الحلية" (8/222)
([28]) سير أعلام النبلاء (5/352)
([29]) البيهقي "شعب الإيمان" (6/324)
([30]) تهذيب الكمال (29/221)
([31]) تاريخ دمشق (23/471)
([32]) حلية الأولياء (8/162)
([33]) العِجلي "معرفة الثقات" (343)
([34]) البيهقي"شعب الإيمان"(5/308)
([35]) أبو نعيم "الحلية" (8/168)